Thursday, February 9, 2006

ضحكة في مواجهة القهر

كنت قد فكرت مليا أن ما من جدوى لطرح موضوع حادثة كانت قد استوقفتني وأشغلت تفكيري لعدة أشهر، فكون موضوع المعاناة الفلسطينية نتيجة للقمع والتسلط الاسرائليين أصبح عاديا الا في بعض الظروف الاستثنائية، جعلني اعتقدت أنه من الأفضل لو أن أغض النظر وأنس موضوع الحادثة تماما ولكن هاجسا داخليا ظل يستفز ذلك السكون الذي أحاول اصطناعه ويفجر أصواتا غاضبة ترفض تخاذلي أو ضعفي إن صح التعبير.
منذ فترة وعلى نفس عادتي، انتهى يوميَ الدراسي في الجامعة وانطلقت نحو رحلة العودة الى المنزل، كان الوقت عصرا وكانت ملامح الخريف وفي هذا الوقت تحديدا قد بدأت بالتكشف، فلسعة البرد القاسية التي كان يحملها الطقس اضطرتني صباحا لارتداء سترة اضافية تكاد تكون ذات فعالية حتى وقت المغرب ...
طبعا وككل الفلسطينين الذين اعتادوا على نهج الذل الذي تتبعه دوريات الجيش الإسرائيلي على الحواجز الاحتلالية، عزمت الأمر على عدم سلوك الطريق الإلتفافي لأن هذا سيستغرق حتما الكثير من الوقت وسيهلك الموازنة العامة لمحفظتي وعوضا عن ذلك قررت المرور بالحاجز الإسرائيلي. تصادف ذلك مع مقتل أحد جنود الحاجزعلى يد شاب فلسطيني قبل يومين تقريبا. لا أخفي عليكم أبدا أن حدسي كان يحدثني عن الإزدحام الذي قد أغوص فيه وعن المشاهد المؤلمة التي سأراها والتي ستقد مضجعي أياما وليال. فعلا، وفي غمرة تلك الأفكار وجدت نفسي أقف في طابور قد يستغرق انتهاؤه ثلاثة أيام، مئات النساء والرجال والكثير من الأطفال كانوا يتكدسون في مساحة صغيرة من منطقة مكشوفة باردة وتلقائيا بدأت أبحث عن الوجه المألوف أو الصدفة التي تضعها مثل هذه الأحداث في وجهي وفعلا كان وجه إحدى أغز صديقاتي تلك الصدفة المألوفة. أتذكر جيدا بأني كنت قد ودعتها منذ ما يزيد عن ساعتين تقريبا الا أنها كانت لا زالت تقف في نهاية الطابور أيضا وتنتظر الفرج.
وصلت بصعوبة كبيرة إليها وسردت علي قصص عشرات الوجوه البائسة التي علقت في ذاكرتي منها قصة سيدة كانت في آخر أشهر حملها التسعة، كم عذبتني آهاتها مع كل ركلة ولكمة ومحاولتها الخلاص من التدافع والجو شبه الخالي من الأوكسجين، كم من مرة شعرت أنا وكأن أنفاسي ستنقطع تماما فقفزت باتجاه الأعلى لأسترق نسمة هواء صغيرة؟ ما حال هذه المرأة اذن؟ وأما الأطفال فلم تكن صديقتي بحاجة لأن تخبر عنهم شيئا فقد كانت أيديهم الصغيرة تشد بنطالي إلى الأسفل مستنجدين بأي مخلص لهم، هل كانوا يصرخون بسبب التدافع أو الألم، أو حتى الجوع أو العطش لا أدري فلم أكن بوضعية تسمح لي بأن أميز...
بعد معاناة طالت ثلاث ساعات تقريبا كنت قد أشرفت على الباب الالكتروني الدوار حيث الخروج الى المرحلة الأولى من التفتيش، قد يشبه اسم هذا الباب إحدى أسماء الألعاب الإلكترونية التي يلهو بها الأطفال ولكنه في الحقيقة ليس الا لعبة يلهو بها جنود ومجندات الاحتلال الذين يتحكمون بدورانه وإغلاقه... أمامي تماما كانت السيدة الحامل تنتظر العبور وبجانبي صديقات كن قد وصلن في وقت لاحق وخلفنا نصف شعب يجب أن ينتقل إلى الجزء الآخر من الحاجز بأي ثمن، ذلك أن هناك أطفالا ينتظرون أمهاتهم مثلا إضافة إلى مئات الالتزامات التي يجب أن تنفذ.
"ارجئوا كلهم لورا"، بلهجة عربية مكسرة صرخ الجندي الأبله المسؤول عن ادارة الباب الإلكتروني ظنا منه بأن هناك من سيسمعه مع كل النداءات والصرخات خلف الباب. سمعت السيدة الحامل كلماته واستعدت للخروج غير مصدقة، ولكن الجندي الأبله ذاته ولا أدري إن قصد ما فعل، أدار الباب وأغلقه بحركة سريعة ضغطت من خلالها القضبان الحديدية على بطن المرأة التي صرخت بطريقة قام الجندي على إثرها بفتح الباب الحديدي سريعا وقبل أن يلحظ الموجودون من الناس ذلك لأن هذا كان سيتسبب له بالكثير من المتاعب طبعا.
أتى الدور علي وصديقاتي وكنا جميعا نضحك كما في كل مرة محاولين أن نخفف عن أنفسنا بعض العذاب وقاصدين في ذلك بشكل أساسي أن نقنع الجندي المحتل بأن ما من قوة تستطيع قهر صمودنا وابتساماتنا الكبيرة التي تعبر عن ذلك.
تحرك الباب وكنا ثلاث فتيات ننتظر أن يدعونا جندي ومجندة لتفتيش أجسادنا وحقائبنا، وبينما نحن نضحك محاولين تجاهل فوهات البنادق ونظرات الحقد المصوبة تجاهنا تماما، وقعت عيناي على مجندة تتحكم بالباب الإلكتروني المخصص لمرور الذكور، تغازل الأخيرة صديقها الجندي المسؤول عن تفتيش الرجال وتداعبه فتدير الباب وتغلقه تماما كما فعل الجندي الأخرق لدى خروج السيدة الحامل من الباب ولكن هذه المرة أصابت هدفا آخر تماما... استشاط الشاب الذي أصابته حركة قضبان الباب غضبا واغتاظ كثيرا للألم الذي أُوقع به وما كان منه الا أن يبدأ بالصراخ معتقدا أن ذلك سيعيد له شيئا من كرامته ولكن مثل ذلك الصراخ لا يستحق صاحبه سوى العقاب اللازم و"التأديب"بحسب منطق الضابط المسؤول، اقتاد جنود الاحتلال الشاب لكن إلى أين، لا أدري...
لاحظت أن إجراءات تفتيش السيدة الحامل كانت قد اشرفت على الانتهاء ولم يبقى أمامها سوى أن تجمع أغراض حقيبتها المتناثرة هنا وهناك وأن يتم التحقق من بطاقتها الشخصية. كنا طبعا ما زلنا نتحدث ونضحك وزاد ضحكنا عندما كادت المجندة التي وجهت بندقيتها تجاهنا تنفجر من غيظها لسبب لا أخفي عليكم أني اختبرته على أرض الواقع قبل انتهائي من إجراءات التفتيش فقط، فعند عودة المجندة متأبطة شرا اكتشفنا انها حملت لنا أمرا من الضابط مباشرة بأن "لا نضحك"، كان ذلك بمثابة طرفة جديدة أعادت كرة الضحك إلينا ثانية وخصوصا أن المجندة كانت قد استخدمت غير لغة لتصل رسالتهم إلينا، فنحن حدثناها بالعربية بأننا لا نتكلم أو نفهم العبرية وأن تتحدث بالعربية إن شاءت، وأما نهاية ذلك فكانت انسحابها وبندقيتها ونظراتها الحاقدة.
كنا على يقين بأن ذلك لن يمر بسلام وأثبت التفتيش والشتائم التي تلقيناها طبعا يقيننا حتى أن المجندة المسؤولة عن تفتيش حقائبنا كانت غاضبة إلى حد جعلها تنطلق كصاروخ لتفريغ شحنة من الغيظ في النساء اللائي كن خلف الباب الإلكتروني وعلت أصواتهن مطالبات بالخروج، لاأدري ما نوع الكلمات التي أطلقتها تلك المجندة في سكرة جنونها وانفعالها ولكن أظنها كانت شتائم ردتها إحدى الشابات اللاتي كن ينتظرن في الخلف أيضا...
في هذه الآونة كان الضابط يحضر لنا عقابا مناسبا، وفعلا وما إن خرجنا حتى دار جدل بيني وبينه تحديدا أراد من خلاله أن يثبت أنه الطرف الأقوى وأنه قادر على سحقي إن أراد وعلى الرغم من ذلك كله خرجت المنتصرة وكان موقفه ضعيفا وبالتالي أمر بالإبقاء على بطاقتي الشخصية وإحدى صديقاتي أيضا لأنها لم تعترف له بأنه صاحب القوة أو الحق.
لن أستطيع وصف مدى الإهانة التي شعرت بها والتي كانت قد خدشت كرامتي وإنسانيتي التي لم تحترم فعلا، فهذا الضابط وجنوده أخذوا يراجعون "ملفي الأمني" كما يسمونه ظنا منهم بأني قد أكون مثلهم أو أني قد أتعامل بمنطق القمع والعصابات الخارجة عن كل قانون.
منذ تلك الحادئة ولا أخفي عليكم أني راجعت الكثير من القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية التي كانت بمضمونها تشرع لي الدفاع عن كرامتي أولا وهي التي حاولوا سحقها إضافة إلى حق الدفاع عن انسانيتي وملكيتي... وأما الأهم من ذلك أيضا فهو أني عجزت تماما عن ايجاد ذلك القانون الذي يعطي أي انسان الحق في أن يمنع ضحكتي أو ابتسامتي! وعلاوة على ذلك تحققت من أن الابتسامة سلاح يكاد يكون أقوى من وقع الرصاصة وأنها رمز للصمود بكل ما تحمله الكلمة من معنى
.