بعض النظرات ننساها وبعضها تعلق ونستعيدها فتثير بنا زوبعة لا تنتهي،
أحاول أن أفهم نوع القوة المغناطيسية التي استخدمها ذلك الطفل أو الشاب ليأسرني منذ تلك الليلة وبعدها...
أعرف أني التقيتيه غير مرة ولكني لم أولي اهتماما لوجوده أبدا، فالتواصل معه لم يتعدى ابتسامة مشفقة كنت أرسمها على وجهي بصعوبة، لم أنظر إليه إلا كطفل أو كأي قطعة أخرى في ذلك المنزل...
كنت أزور صديقتي من فترة لأخرى، لم تخبرني يوما بأن لديها شقيقا ولكني فوجئت به لدى زيارتي الأولى لبيتهم.
في بادئ الأمر بادرت بإلقاء التحية وعندما اكتشفت الأمر صدمت حقا وتجاهلت الموضوع كليا، قذفت بأي فكرة كان من الممكن أن تقفز إلى مخيلتي إلى زاوية بعيدة من رأسي الكبير –الكبير حجما- قذفت بها كأي مساحة بيضاء أمارس عليها لعبة قتل الأفكار لكي لا أستعيدها مجددا.
كيف كنت غبية ولم أفهم ما حاول أن يقوله ذلك الطفل الذي يصغرني بعامين أو ثلاثة أعوام على الأكثر، وكيف يمكن لي وشقيقته أن نكون بهذه القصوة؟ فأنا التي اشتركت في عدد من ورشات العمل التي تدعم حقوق هذه الشريحة بالذات لم أتقن سوى اصطناع ابتسامة ليس إلا، ولكنه عرف تماما كيف يرد لي ذلك ويصطنع ابتسامة أقرب إلى الاشمئزاز والحياء والاعتذار في آن واحد..
عندما زرت صديقتي في المرات السابقة، لم يكن مسموحا لشقيقها بأن يتناول الطعام معنا أو حتى أن يجالسنا، ارتحت أنا لهذا الإجراء ليس لأنني لم أتقبل شقيق صديقتي بل لأنني لم أستطع تقبل إعاقته البسيطة.
شقيق صديقتي يعاني من إعاقة عقلية أثرت على نطقه وعلى حركته إجمالا.
رأيته ثلاث مرات أو أربع، في المرة الأولى صدمت لوجوده وفي الثانية لم أعبَره وفي المرة الرابعة لم ألحظ وجوده أصلا على الرغم من التزامه المنزل.
أما هذه المرة وعندما وصلت لعيادة والدتهم المريضة فقد خرج لاستقبالي ووالدتي أيضا، فرحت لرؤية والدة صديقتي جالسة في البستان ووجهها يشع نضارة على الرغم من كميات الحزن التي لم تفارق عينيها قط، وما أن انحنيت أقبل وجنتيها الورديتين وأدعو لها بالسلامة حتى فُتح الباب الحديدي للمنزل فجأة ليطل منه وجه شادي مليئا بالفرح، استقبل والدتي بحفاوة لا توصف حتى أن الكلمات وإن لم تخرج من فمه سليمة، خرجت من عينيه الرائعتين صادقة تتوجه إلى القلب مباشرة.
سررت لرؤية شادي أو أسعدتني ابتسامته التي تغلغلت إلى أعماق داخلي..
خرجت كلماته ثقيلة من بين أسنانه وقال لأمي وهو غاية في البراءة: "أنا أعرفك، أنت فدوى" فأجابته أمي بحنان كبير وسألته عن حاله ومقدار اشتياقه لها، فأجاب بسرعة بأنه يحبها كثيرا ويذكر أنها كانت توصله بسيارتها إلى المدرسة التي يكرهها!.!.أردت في تلك اللحظة أن يحدثني أيضا أو يقول أي شيء ولكنه وعندما أصبحت وقفتنا مواجهة صمت وغابت عن وجهه تلك الابتسامة المتلهفة، ما زلت أقع تحت تأثير وجوده الذي عج به المكان وبالتالي ابتسمت بصدق تلقائي أيضا، صوب نظره إلى عيني مباشرة وبجرأة لم أعرفها من قبل، نسف أي قدرة لي على الكلام، لا أدري إن كنت قد انتظرته ليتكلم ولكنه بابتسامة اعتذار صغيرة انسحب.
ركض باتجاه السلم وصعد إلى البيت مسرعا ثم نظر إلي ثانية قبل أن يطأ العتبة وضحك برعونة طفل ونشوة ثمل.. تسمرت أرجلي واقشعر بدني وأظن أن عيناي تكورتا بشكل لافت للنظر الأمر الذي جعل والدته تدعوني للدخول ورؤية نانا –صديقتي- أظن أني تحركت بسرعة وغباء في تلك اللحظة نحو الباب السفلي للمنزل، دخلت وتمنيت لو تبتلعني كل الأشياء.. مشيت في الممر الطويل الموصل إلى غرفة الجلوس وسط الموسيقى الصاخبة التي تستهوي نانا كثيرا ويضج بها المكان، صادفتني مرآة في الممر، وقفت أمامها أحاول لملمة أجزائي المبعثرة، فباشرت أصابعي في ترتيب شعري الكثيف واكتشفت أن عيناي تهربان من المواجهة لأن النظر فيهما يعني استعادة صورته واستعادة لقاءي الأول بشادي الذي اعتبرته مسكينا ومعاقا ليس إلا..أنقذني خروج نانا من الحمام وقطرات الماء تتساقط من شعرها وكأنها خيبتي..استقبلتني بحب كبير وغمرتني، كرهتها في تلك اللحظة، فهي لم تدعني أحب أخاها يوما ولم تحاول أن تفتح مجالا لأي نوع من التواصل بيننا، فصممت على ابعاده.
في زياراتي السابقة كانت تدخلني إلى غرفتها وتقفل الباب وتوصي والدتها بأن يأكل شادي قبل أن نأكل نحن وألا يقتحم الغرفة علينا، مع العلم بأننا لم نقل الكثير من الأمور المهمة ومع هذا كان يطرق الباب دائما محاولا الدخول إلى عالمنا ومشاركتنا الأحاديث وتناول رقائق البطاطس أو القمح...كانت طرقاته لا تنتهي إلا إذا طلب والداه منه تأدية مهمة ما، وأما عندما يأتي موعد تناولنا الطعام حسب توصيات نانا، كان شادي يُجر إلى غرفته وترافقه والدته.. كم كنا حمقى عندما أوصدنا أبوابنا في وجهه، كم قتلنا فيه من رغبات عظيمة وكم قسونا على أنفسنا نحن حين أخترنا الابتعاد عن عالمه البسيط المعقد.
واليوم يضحك في وجهي ضحكة اعتذار لأنه يتواجد أمامي!! حيث لا يجب أن يكون!.. وضحكة اشمئزاز لأني رفضته أصلا أو لم أمنحه فرصة أن يؤمن بنفسه كإنسان..
من غير الممكن لي أن أنسى صورته وهو يركض في الممر الطويل ملبيا دعوة نانا لأن يساعد والدتهما في حمل طبق خشبي... إنسان يتحلى بكل ما تحمله الكلمات من معنى، بالصدق والبراءة والشجاعة والذكاء والقدرة على إدخال الفرحة إلى القلوب بابتسامة سحرية.
نظرة الشفقة تلك لا تناسبه ولا مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة التي يذهب إليها أيضا، فكي لا يضطر للبكاء في كل صباح لدى ذهابه إلى ذلك المكان ولا تضطر والدته لذرف الدم بدلا من الدموع، يجب أن يرافقنا إلى كل مكان، إلى السوق والمقهى وأماكن عملنا أحيانا وإلى مركز التأهيل والتطوير أحيانا أخرى.
رفضه بأن يُسجن في قفص قضبانه خجل وقفله بحث عن "راحة البال" كما يسمونها أو تعب البال كما أسميها، رفضه واضح مع كل ضحكة، مع كل مرة يعانق فيها والده لدى وصوله من العمل، مع كل احتجاج وثورة يطلقها بمجرد أخذ القرار لعزله، مع كل مرة يقدم فيها يد العون لوالدته وأخته في المطبخ وتنظيف غرفة الجلوس، مع كل مرة يمنح فيها كتفه لجدته المسنة كي يعينها على المشي ومع كل مرة يهبنا فيها جسده وروحه بصدق..
شادي قد يبدو غريبا ولكنه من أجمل ما حرك في داخلي هواجسا وزوابعا لا يُسكَنها أن تكون شريحته ممثلة على قائمة الحركة الفلانية لوصول نسبة الحسم وحسب أو أن تفتح عشرات المؤسسات أبوابها لهم سواء بهدف تطويرهم أو تدميرهم عن غير قصد. هم طاقة آن لها أن تستثمر وتساهم في العطاء لهذا المكان، على الأقل أن لديهم الكثير مما يقدمونه وبكل صدق.
2005
أحاول أن أفهم نوع القوة المغناطيسية التي استخدمها ذلك الطفل أو الشاب ليأسرني منذ تلك الليلة وبعدها...
أعرف أني التقيتيه غير مرة ولكني لم أولي اهتماما لوجوده أبدا، فالتواصل معه لم يتعدى ابتسامة مشفقة كنت أرسمها على وجهي بصعوبة، لم أنظر إليه إلا كطفل أو كأي قطعة أخرى في ذلك المنزل...
كنت أزور صديقتي من فترة لأخرى، لم تخبرني يوما بأن لديها شقيقا ولكني فوجئت به لدى زيارتي الأولى لبيتهم.
في بادئ الأمر بادرت بإلقاء التحية وعندما اكتشفت الأمر صدمت حقا وتجاهلت الموضوع كليا، قذفت بأي فكرة كان من الممكن أن تقفز إلى مخيلتي إلى زاوية بعيدة من رأسي الكبير –الكبير حجما- قذفت بها كأي مساحة بيضاء أمارس عليها لعبة قتل الأفكار لكي لا أستعيدها مجددا.
كيف كنت غبية ولم أفهم ما حاول أن يقوله ذلك الطفل الذي يصغرني بعامين أو ثلاثة أعوام على الأكثر، وكيف يمكن لي وشقيقته أن نكون بهذه القصوة؟ فأنا التي اشتركت في عدد من ورشات العمل التي تدعم حقوق هذه الشريحة بالذات لم أتقن سوى اصطناع ابتسامة ليس إلا، ولكنه عرف تماما كيف يرد لي ذلك ويصطنع ابتسامة أقرب إلى الاشمئزاز والحياء والاعتذار في آن واحد..
عندما زرت صديقتي في المرات السابقة، لم يكن مسموحا لشقيقها بأن يتناول الطعام معنا أو حتى أن يجالسنا، ارتحت أنا لهذا الإجراء ليس لأنني لم أتقبل شقيق صديقتي بل لأنني لم أستطع تقبل إعاقته البسيطة.
شقيق صديقتي يعاني من إعاقة عقلية أثرت على نطقه وعلى حركته إجمالا.
رأيته ثلاث مرات أو أربع، في المرة الأولى صدمت لوجوده وفي الثانية لم أعبَره وفي المرة الرابعة لم ألحظ وجوده أصلا على الرغم من التزامه المنزل.
أما هذه المرة وعندما وصلت لعيادة والدتهم المريضة فقد خرج لاستقبالي ووالدتي أيضا، فرحت لرؤية والدة صديقتي جالسة في البستان ووجهها يشع نضارة على الرغم من كميات الحزن التي لم تفارق عينيها قط، وما أن انحنيت أقبل وجنتيها الورديتين وأدعو لها بالسلامة حتى فُتح الباب الحديدي للمنزل فجأة ليطل منه وجه شادي مليئا بالفرح، استقبل والدتي بحفاوة لا توصف حتى أن الكلمات وإن لم تخرج من فمه سليمة، خرجت من عينيه الرائعتين صادقة تتوجه إلى القلب مباشرة.
سررت لرؤية شادي أو أسعدتني ابتسامته التي تغلغلت إلى أعماق داخلي..
خرجت كلماته ثقيلة من بين أسنانه وقال لأمي وهو غاية في البراءة: "أنا أعرفك، أنت فدوى" فأجابته أمي بحنان كبير وسألته عن حاله ومقدار اشتياقه لها، فأجاب بسرعة بأنه يحبها كثيرا ويذكر أنها كانت توصله بسيارتها إلى المدرسة التي يكرهها!.!.أردت في تلك اللحظة أن يحدثني أيضا أو يقول أي شيء ولكنه وعندما أصبحت وقفتنا مواجهة صمت وغابت عن وجهه تلك الابتسامة المتلهفة، ما زلت أقع تحت تأثير وجوده الذي عج به المكان وبالتالي ابتسمت بصدق تلقائي أيضا، صوب نظره إلى عيني مباشرة وبجرأة لم أعرفها من قبل، نسف أي قدرة لي على الكلام، لا أدري إن كنت قد انتظرته ليتكلم ولكنه بابتسامة اعتذار صغيرة انسحب.
ركض باتجاه السلم وصعد إلى البيت مسرعا ثم نظر إلي ثانية قبل أن يطأ العتبة وضحك برعونة طفل ونشوة ثمل.. تسمرت أرجلي واقشعر بدني وأظن أن عيناي تكورتا بشكل لافت للنظر الأمر الذي جعل والدته تدعوني للدخول ورؤية نانا –صديقتي- أظن أني تحركت بسرعة وغباء في تلك اللحظة نحو الباب السفلي للمنزل، دخلت وتمنيت لو تبتلعني كل الأشياء.. مشيت في الممر الطويل الموصل إلى غرفة الجلوس وسط الموسيقى الصاخبة التي تستهوي نانا كثيرا ويضج بها المكان، صادفتني مرآة في الممر، وقفت أمامها أحاول لملمة أجزائي المبعثرة، فباشرت أصابعي في ترتيب شعري الكثيف واكتشفت أن عيناي تهربان من المواجهة لأن النظر فيهما يعني استعادة صورته واستعادة لقاءي الأول بشادي الذي اعتبرته مسكينا ومعاقا ليس إلا..أنقذني خروج نانا من الحمام وقطرات الماء تتساقط من شعرها وكأنها خيبتي..استقبلتني بحب كبير وغمرتني، كرهتها في تلك اللحظة، فهي لم تدعني أحب أخاها يوما ولم تحاول أن تفتح مجالا لأي نوع من التواصل بيننا، فصممت على ابعاده.
في زياراتي السابقة كانت تدخلني إلى غرفتها وتقفل الباب وتوصي والدتها بأن يأكل شادي قبل أن نأكل نحن وألا يقتحم الغرفة علينا، مع العلم بأننا لم نقل الكثير من الأمور المهمة ومع هذا كان يطرق الباب دائما محاولا الدخول إلى عالمنا ومشاركتنا الأحاديث وتناول رقائق البطاطس أو القمح...كانت طرقاته لا تنتهي إلا إذا طلب والداه منه تأدية مهمة ما، وأما عندما يأتي موعد تناولنا الطعام حسب توصيات نانا، كان شادي يُجر إلى غرفته وترافقه والدته.. كم كنا حمقى عندما أوصدنا أبوابنا في وجهه، كم قتلنا فيه من رغبات عظيمة وكم قسونا على أنفسنا نحن حين أخترنا الابتعاد عن عالمه البسيط المعقد.
واليوم يضحك في وجهي ضحكة اعتذار لأنه يتواجد أمامي!! حيث لا يجب أن يكون!.. وضحكة اشمئزاز لأني رفضته أصلا أو لم أمنحه فرصة أن يؤمن بنفسه كإنسان..
من غير الممكن لي أن أنسى صورته وهو يركض في الممر الطويل ملبيا دعوة نانا لأن يساعد والدتهما في حمل طبق خشبي... إنسان يتحلى بكل ما تحمله الكلمات من معنى، بالصدق والبراءة والشجاعة والذكاء والقدرة على إدخال الفرحة إلى القلوب بابتسامة سحرية.
نظرة الشفقة تلك لا تناسبه ولا مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة التي يذهب إليها أيضا، فكي لا يضطر للبكاء في كل صباح لدى ذهابه إلى ذلك المكان ولا تضطر والدته لذرف الدم بدلا من الدموع، يجب أن يرافقنا إلى كل مكان، إلى السوق والمقهى وأماكن عملنا أحيانا وإلى مركز التأهيل والتطوير أحيانا أخرى.
رفضه بأن يُسجن في قفص قضبانه خجل وقفله بحث عن "راحة البال" كما يسمونها أو تعب البال كما أسميها، رفضه واضح مع كل ضحكة، مع كل مرة يعانق فيها والده لدى وصوله من العمل، مع كل احتجاج وثورة يطلقها بمجرد أخذ القرار لعزله، مع كل مرة يقدم فيها يد العون لوالدته وأخته في المطبخ وتنظيف غرفة الجلوس، مع كل مرة يمنح فيها كتفه لجدته المسنة كي يعينها على المشي ومع كل مرة يهبنا فيها جسده وروحه بصدق..
شادي قد يبدو غريبا ولكنه من أجمل ما حرك في داخلي هواجسا وزوابعا لا يُسكَنها أن تكون شريحته ممثلة على قائمة الحركة الفلانية لوصول نسبة الحسم وحسب أو أن تفتح عشرات المؤسسات أبوابها لهم سواء بهدف تطويرهم أو تدميرهم عن غير قصد. هم طاقة آن لها أن تستثمر وتساهم في العطاء لهذا المكان، على الأقل أن لديهم الكثير مما يقدمونه وبكل صدق.
2005
1 comment:
انا اعرف الكثير من الناس ..الذين يجيدون الكلام...ولا يعانون من اية مشكلة لا في الكلام ولا في المشي..الا انني اعتبرهم من المعاقين ...اما الشخص الذي تحدثتي عنه.....فانا استغرب كيف لمثل هذا الانسان الذي يحمل كل المواصفات التي ذكرتيها من طيبة وحنان وانسانيه..ان نصفه وان نتعامل معه على انه معاق؟
Post a Comment