Monday, June 18, 2007

لكما



كانت محادثة سريعة جدا، لم تتعدى بضع كلمات فقط، حتى أنها خلت من تلك التعابير البذيئة التي كنا نتقاذفها كنوع من الدعابة الرديئة، وضعت الهاتف جانبا وانزلقت في الكنبة الكبيرة التي كنت أجلس بها وبحركة تلقائية وكعادتي عند موقف كهذا تسلل أصبعي إلى فمي وبدأ أظفري بنقش جرح في لثتي الأمامية، طعم الدم أوقذني من جولة من التعنيف ضد ذاتي فأسرعت لتناول فرشاة أسناني مع أني أعرف تماما بأن الأمور قد تحل بمجرد غسل فمي بالماء ولكن الفرشاة كفيلة بأن تحدث ألما أكبر وتفرغ بشكل أسرع تلك الكمية الهائلة من الطاقة السلبية ولو بسيل من الدم ورعشة من الألم.

سأخبرك ثانية بأنني كلما أسدلت الصفحة الأخيرة لكتاب تذكرتك، كانت تراودني دائما فكرة التقاط سماعة الهاتف والحديث إليك عن ذلك الكتاب أو ذا، تيك الفكرة أو تلك، فكان صوتك يسبقني دائما، يستدرجني بكلمة واحدة لأقول كل الأمور، صغيرة كبيرة، غنية تافهة، وصدفة اكتشفنا سبب ابتعادنا اللذيذ بين صفحات الكتب وفي مكان قرر كل منا أن يذهب إليه بغير علم الآخر، جمعنا القدر مرة أخرى على عتبته ذات عصر يوم أظنه كان ربيعيا، تماما ككل التفاصيل هناك وكذلك الرجل الذي أصبحت أجسادنا تتراقص لرؤيته وقلوبنا تهوي عند غيابه. أظننا تعلمنا أكثر مما كان يجب أن نعرف وعمنا حتى الغرق الذي ندركه اليوم ونعتبره أجمل نزهة استكشافية خرجنا إليها.

هناك جمعتنا أجمل عتمة عشناها ورائحة أوراق الكتب المصفرة التي كنا نعشقها. أكانت العبثية أم البساطة أول ما استدرجنا معا في وقت واحد إلى هناك؟
تمر في رأسي عدد من الصور في هذه اللحظة، دهشتنا أمام حركة أيدينا التي اكتشفنا بأنها لم تكن عادية أبدا، عندما قررنا أن نراها عن بعد ونفصلها عن أجسادنا، وأذكر أيضا ذلك اليوم الذي بلغت سذاجتنا فيه حدا لا يطاق، أغلقنا أفواهنا بشريط لاصق وقررنا أن نجد طريقة أخرى للكلام، أن نبتدع علم أصوات جديد وقاعدة تشبهنا، أذكر دموعك لسبب ما، وما زلت لا أدري إن كان لديك حدس مسبق بأن شيئا كالذي حصل كان سيحدث. أذكر ضحكاتنا وتململك الدائم، وورقة صغيرة كتبت عليها كلمات لغاندي وأحب كثيرا أن أرددها ثانية هنا "لا أريد لبيتي أن يكون مسورا من جميع الجهات ولا أريد أن تكون نوافذي مغلقة، أريد أن تهب على بيتي ثقافات كل الأمم بكل ما أمكن من حرية ولكن أنكر على أي منها أن تقتلعني من أقدامي، إن مذهبي ليس دينا مغلقا ففيه مجال لأقل مخلوقات الله شأنا ولكن يستعصي على الكبرياء العاتية، كبرياء العرق أو الدين أو اللون".
أتذكر ابتسامة كانت تحتضننا دائما وكثير من أشياءنا التي تخلت عن منزلينا وكلمات هجرت أفواه أناس كنا نحب أن نسمعها منهم "روحك إلك" كلمة واحدة فقط كانت تعطيني إحساس الفراشات التي تدغدغ أمعائي أو نجوما تبرق من حولي... أذكر أنه المكان الوحيد الذي من أجله تركت عددا من مقتنياتي الغريبة الفريدة.
أستطيع استعادة فضولنا في اكتشاف داخل الصناديق القديمة على الرفوف العلوية. ماذا كنا نظن؟ لماذا كنا نقحم أنفسنا في ذلك؟ المهم أننا لم نحقق ذلك وتركنا مع كثير من الأمور العالقة هنا، ذهب جزء مما كان يجمعنا...

كنا غالبا ما نتحفظ كثيرا على وصلة غنائية يومية لأم كلثوم واكتشفنا عشقا لهذا الصوت لا نعرف مصدره، يقتحم آذنينا ويتماشى مع قاعدة الأصوات التي عجنت بجنوننا.

منحنا ذلك المكان الذي وطأته أقدامنا صدفة شكلا آخر من كل شيء، فحتى انتظارنا لصباحات الصيف أو أيام الشتاء فقد أصبح مغايرا، فما أن تنشقنا نسائم الصيف الأولى وحددنا الزوايا التي يصلها الضوء أولا حتى ملئنا شغف أكبر لمراقبة الشتاء من خلف ذلك الباب ذاته، هو، الذي مررت به صباح اليوم ووجدته مقفلا... سيقبل الربيع قريبا وأود لو تزهر أشجارنا الثلاث ثانية.

أول كتاب ابتعته من ذلك المكان، المكتبة، ومن صاحب المكتبة تحديدا، كان "لوعة الغياب"، لم أكن أتوقع بأنه يمكن للقدر أن يتلاعب بي هكذا ويسرق الزمان والمكان ونعرف معا لوعة الغياب، وأن يفرقنا إلى حين عودة...

ها قد غربت شمس هذا اليوم، إنها السادسة تقريبا، منذ فترة اعتدت أن أغلق نوافذي، لا خوفا من برودة الطقس بل خشية المذياع، وها هو مذياع جارتنا يعلو تدريجيا وأم كلثوم ستغني الرباعيات وسأبقي النافذة مفتوحة، سأحاول استفزازك في المرة القادمة لتقاذف البذاءة وأسمع الكلمات التي أحب أن أكمل يومي بها، سأضع في معصمي سوارا من خيوط الصوف وسأسدل صفحات أخيرة لكتب كثيرة، سنناقشها في وقت ما. ألا يستحق ذلك الرجل منا أكثر من مجرد انتظار عودته يجب أن يعود ليجدنا كما كنا، نتابع الثرثرة التي قلما انتهت ونخترع وصفة العجب تلك...
دعنا نقول بأن نتوق شغفا لرؤيتك وعودتك، لأن أشياء كثيرة كانت قد فقدت معانيها وسحرها الخاص أثناء غيابك ومرضك.
صديقنا هذا مختلف جدا وصاحب مكتبة مختلفة جدا ومنذ فترة تركنا ليكمل علاجه بسبب المرض.

No comments: